التربية الواعية.. استثمار لبناء انسان مسئول قادر على التفكير واتخاذ القرار.
في زمن تتسارع فيه وتيرة الحياة وتتداخل فيه المؤثرات بين الواقع والافتراضي، باتت التربية الواعية هي الخط الفاصل بين جيل يملك أدوات الوعي، وآخر تبتلعه الفوضى المعرفية والعاطفية. فالتربية لم تعد مجرد توجيه أو نصيحة عابرة، بل أصبحت مشروعًا لبناء الإنسان القادر على التفكير، واتخاذ القرار، وتحمل المسؤولية.
يقول الدكتور وليد سلامة – استشاري تربوي إن التربية الواعية تقوم على فهم الطفل قبل توجيهه، والاستماع قبل التعليم، لأن التواصل الفعّال بين الآباء والأبناء هو الأساس الذي تبنى عليه كل مهارات الحياة.
ويضيف أن "الأبوة والأمومة ليست أدوارًا فطرية فقط، بل هي مهارة تحتاج إلى وعي وتدريب، مثلها مثل أي مهنة أو مسؤولية أخرى".
ويرى الدكتور وليد سلامة أن أخطر ما يواجه الأسر اليوم هو التربية التلقائية غير الواعية، تلك التي تعتمد على رد الفعل أو تقليد النماذج القديمة دون إدراك لاختلاف الزمن والظروف. فالعقاب غير المدروس، والمقارنة، والضغط النفسي، كلها أدوات تهدم شخصية الطفل وتفقده الثقة بالنفس.
ويؤكد أن التربية الواعية لا تعني التساهل، بل تعني الانضباط الهادئ المبني على الفهم. فهي توازن بين الحزم والرحمة، وبين الحرية والمسؤولية، وبين التوجيه والاستقلال. ويقول: "الطفل لا يحتاج والدًا مثاليًا، بل والدًا صادقًا، يفهم مشاعره، ويخطئ أمامه ثم يعتذر. هذه الرسائل البسيطة تزرع في الطفل أعظم القيم الإنسانية."
ومن أهم ركائز التربية الواعية – بحسب الدكتور وليد سلامة – ما يلي:
القدوة الصالحة: فالأبناء يتعلمون مما يرونه أكثر مما يسمعونه.
الاحترام المتبادل: غرس قيمة الاحترام يبدأ من طريقة تعاملنا معهم.
التعبير عن المشاعر: تعليم الطفل تسمية مشاعره والتعبير عنها بطريقة صحية.
الاستقلال والمسؤولية: منح الطفل مساحة لاتخاذ القرار وتحمل نتائجه.
التواصل المستمر: الحوار اليومي المفتوح بلا أحكام أو انتقادات.
وأكد الدكتور وليد سلامة "إن التربية الواعية ليست رفاهية فكرية، بل ضرورة وطنية لبناء جيل يمتلك وعيًا يقيه من التطرف والعنف والانغلاق. فكل بيت واعٍ هو نواة لمجتمع متوازن، وكل كلمة طيبة من والد لطفله هي لبنة في بناء إنسان صالح ومؤثر."
ويبقى السؤال، كيف يتعلم الأباء التربية الواعية؟
يقول الدكتور وليد سلامة ٱن الوعي لا يُورث، بل يُكتسب بالتعلم والممارسة، ففي خضم التحديات اليومية التي تواجه الأسر المعاصرة، لم تعد التربية مجرد واجب عائلي، بل أصبحت فنًا يحتاج إلى وعي وتدريب مستمر. فالكثير من الآباء يعتقدون أن الحب وحده كافٍ لتنشئة أطفال متوازنين، لكن الحقيقة أن النية الطيبة دون وعي قد تؤدي إلى نتائج عكسية.
يقول الدكتور وليد سلامة – إن الخطوة الأولى في تعلم التربية الواعية تبدأ من وعي الوالد بنفسه قبل ابنه. ويؤكد:"لا يمكن أن نربي أبناءنا ونحن لا نعرف أنفسنا. فالأب الذي يغضب بسرعة، أو الأم التي تفرط في الحماية، لا يدركان أن هذه السلوكيات تعكس احتياجات أو تجارب لم تُفهم بعد."
ويضيف أن كثيرًا من أنماط التربية التي نمارسها اليوم هي انعكاس لما تربينا عليه، لا لما يحتاجه الطفل فعلًا. ولهذا، فإن أول خطوة نحو الوعي هي التوقف عن التلقائية، ومراجعة ردود أفعالنا، وفهم أسبابها.
ويشرح الدكتور وليد سلامة أن تعلم التربية الواعية يتم من خلال عدة محاور أساسية:
أولًا: وعي الذات قبل التوجيه
التربية الواعية تبدأ من الداخل. يحتاج الوالدان إلى فهم مشاعرهما ونقاط ضعفيهما، لأن الطفل يتأثر بانفعالات والديه أكثر مما يتأثر بكلامهما. ويقول سلامة:
"قبل أن تصرخ في وجه طفلك، اسأل نفسك: هل هو من أثار غضبي حقًا، أم أنني مثقل من يومي؟"
ثانيًا: التعلم والاطلاع المستمر
يؤكد سلامة أن التربية لم تعد مسألة فطرية فقط، بل علم قائم على أبحاث وتجارب، داعيا الآباء إلى القراءة في كتب التربية الحديثة وحضور الدورات التدريبية التي تشرح مراحل النمو النفسي والعاطفي للطفل
ثالثًا: التطبيق العملي والتدريب
من أهم طرق التعلم المشاركة في ورش العمل والدورات التطبيقية التي تقدمها مراكز متخصصة، حيث يتعلم الآباء مهارات التعامل مع الغضب، والاستماع الفعّال، والتوجيه الإيجابي بدل العقاب.
ويشير الدكتور وليد سلامة إلى أن "المعرفة بلا ممارسة تبقى نظرية، أما الوعي الحقيقي فيبدأ عندما نحاول تطبيق ما تعلمناه في المواقف اليومية".
رابعًا: التأمل والملاحظة اليومية
يعتبر التأمل اليومي في سلوك الطفل وردود فعلنا نحوه أداة تعليم قوية. فكل موقف – مهما بدا بسيطًا – يحمل رسالة.
"حين يخطئ الطفل، لا تسأل: كيف أعاقبه؟ بل اسأل: ماذا كان يحتاج؟ وكيف أوجهه دون أن أؤذيه؟"
هذا النوع من التفكير يحوّل التربية من رد فعل إلى فعل مقصود بوعي وهدوء.
خامسًا: الدعم النفسي للوالدين
يشير سلامة إلى أن بعض الآباء لا يستطيعون تطبيق التربية الواعية لأنهم مرهقون نفسيًا أو يعيشون تحت ضغط مستمر. ويقول:
"لا يمكن لوالد مضغوط أن يربي طفلًا مستقرًا، فالعطاء يبدأ من التوازن الداخلي." ومن هنا تأتي أهمية طلب الدعم النفسي أو الإرشادي عند الحاجة، حفاظًا على صحة الأسرة بأكملها.
واكد الدكتور وليد سلامة ان"التربية الواعية ليست وصفة سريعة، بل رحلة تعلم ونضج يعيشها الوالدان قبل الأبناء. والأجمل أن هذه الرحلة لا تصنع طفلًا ناجحًا فحسب، بل تخلق إنسانًا متصالحًا مع ذاته، وبيتًا مليئًا بالحب الحقيقي لا المشروط.